الجمعة، 14 ديسمبر 2012

و قال الدكتور عتريس

                                                                   عتريس
 
فى الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم اكتشفت أننى أكلم نفسى , و يبدو أن كلامى مع نفسى بدأ بصوت هامس ثم أخذ يتدرج فى الارتفاع حتى تنبهت إلى ذلك .
إن كثيرا من الناس يكلمون أنفسهم , و لا يعرف الواحد منهم إن كانت هذه الحالة قد جاءته فجأة أم هى نتيجة طبيعية للزواج و مسئولياته , لكننى أعرف جيدا لماذا أكلم نفسى , فالفضل فى ذلك للبرنامج التليفزيونى " الوقاية خير من العلاج " . إن هذا البرنامج - الذى اكتشفته زوجتى - شجعنى لكى أكلم نفسى , و استضاف طبيبا قال : إن من الطبيعى أن يكلم الإنسان نفسه أثناء التفكير , فما التفكير إلا حوار بين الإنسان و ذاته , و لا مانع من أن يفكر الإنسان أحيانا بصوت مرتفع .

لقد اكتشفت أن الحوار بصوت مرتفع بينى و بين نفسى يعطى للألفاظ وضوحا أكثر للمعنى و قوة أكبر فى الإقناع , لقد أتاح لى خلو المنزل من زوجتى فرصة المناقشة الذاتية فى حرية تامة , و لم يقطع مسار هذا الحوار المثمر إلا جرس الباب . ظننت أن زوجتى عادت من عند الطبيب , و لكن الطارق كان جارى فؤاد .. و قد بدا عليه انزعاج واضح و هو يسألنى : من الذى تشتبك معه فى هذا الحوار الصاخب ؟.. فلما عرف أننى وحدى عاد يستفسر فى دهشة : إذن من الذى كنت تقول له مرارا : أنت حمار ؟

و إذا كنت يومها قد أخفيت عن جارى فؤاد أننى أتكلم مع نفسى , إلا أننى أصبحت أفعل ذلك فيما بعد بدون خجل , فبفضل زوجتى أصبح جيراننا جميعا - و معهم فؤاد و زوجته - من أشد المقتنعين بهذا البرنامج النافع العظيم " الوقاية خير من العلاج " . كلنا ننتظر مواعده , و نستمع إلى نصائحه , و نستمد منه الوعى الصحى , فنحن جميعا قد تجاوزنا منتصف العمر و أصبحت مشكلتنا الصحية هى مشكلة صيانة , خاصة أن الدكتور عتريس - أحد نجوم البرنامج - ينبهنا دائما بعبارته المأثورة إن كل الأمراض تكمن داخل جسمك و كل مرض منها ينتظر أول فرصة له عند ضعف المقاومة أو المناعة أمامه .

لهذا أصبحنا نزور الأطباء كثيرا , و فى أقل من شهر مثلا ذهبت زوجتى إلى أخصائى جهاز هضمى , و طبيب عيون , و أخصائى غدة , ثم أخصائى أنف و أذن وحنجرة , صحيح أن نتائج الفحص و الآشعة و التحاليل أثبتت أنه ليس هناك أى أثر لأى مرض , و صحيح أننى بعت نصيبى من قطعة الأرض , و لكن هذا كله لا يهم , فالحيطة واجبة .
و لعل أكثر ما شغل زوجتى بعد ذلك هو تلك البقعة الحمراء فى ظهر يدها التى نبه لها طبيب الأمراض الجلدية فى البرنامج قائلا : عند ظهور هذه البقعة فعليك أن تقاوم الرغبة بحكها بأظافرك , و سوف ترتفع درجة حرارتك , فاعرض نفسك على طبيب .
عقب انتهاء البرنامج , لاحظت زوجتى وجود هذه البقعة الحمراء فى يدها , و بدأت تقاوم بصعوبة الرغبة فى حكها بأظافرها , و باتت الليل تعانى و الترمومتر فى فمها يسجل ارتفاع نصف درجة .

و فى اليوم التالى فشلت زوجتى فى الحصول على موعد قبل شهر عند طبيب الأمراض الجلدية الكبير . و توسلنا ببعض الأقارب من أصدقاء الطبيب الكبير , فرضى أن نحجز موعدا مستعجلا بمائة جنيه بعد أربعة أيام , و فى خلال تلك الأيام الأربعة لزمت المسكينة الفراش تتألم , و كلما توافد على غرفتها بالبيت وفد من الأهل و الأصدقاء أرتهم البقعة الحمراء فى ظهر يدها و انخرطت فى البكاء .
و كثر كلامى مع نفسى فهو يكثر فى حالات الأم و حالات السرور . ثم زاد كلامى مع نفسى عن الحد المعقول عندما تأكد لى أن الطبيب استحق المائة جنيه عن جدارة , فقد اكتشف أن النقطة الحمراء على ظهر يد زوجتى هى نقطة من مطهر الميكروكروم , سقطت على يدها أثناء استعمال الزجاجة , و عندما عرفت زوجتى أنه ميكروكروم زال عنها الألم تماما و تم الشفاء و الحمد لله
*****
على الشاشة الصغيرة , ظهر الدكتور عتريس يردد كلمته المأثورة : إن كل الأمراض تكمن داخل جسمك , و كل مرض منها ينتظر أول فرصة له عند ضعف المقاومة أو المناعة أمامه , ثم انبرى بعد ذلك أخصائى يقول : من المعدة تبدأ كل الأمراض , لكنك تستطيع أن تتقى شرها جميعا باللبن و الزبادى , الزبادى صديق المعدة , الزبادى يطيل العمر , فلتكن وجبتك زبادى , و بين الوجبة و الوجبة زبادى .

و كان ولاؤنا للزبادى عظيما , و لم يعد لنا من طعام سواه , و عندما حدثت أزمة زبادى فى المدينة أدركنا أن جارنا فؤاد هو السبب , فقد كان حريصا على أن يطيل عمره , كان يتناول بين وجبة الزبادى و وجبة الزبادى وجبة ثالثة من الزبادى , و بلغت دقته فى تنفيذ تعليمات طبيب البرنامج درجة عظيمة , حتى أنهم نقلوه إلى المستشفى و أجروا له غسيل معدة , و جاءت سيارات المطافئ لشفط كميات الزبادى من الشوارع المحيطة بالمستشفى .
*****
و لقد كان برنامجا حافلا ذلك الذى قدمه ذات ليلة الدكتور عتريس .. سرد أنواع السموم التى يمكن أن يصاب بها الإنسان خطأ , و قدم معها الترياق المضاد لكل سم . و سجلت زوجتى هذه المعلومات النافعة على شريط فيديو , و اتخذت من هذا الشريط مرجعا تستذكر منه الأعراض المختلفة التى تظهر على الانسان عند تناوله كل سم , ثم طريقة العلاج , حتى أنها أصبحت عليمة بكيفية علاج حالات التسمم بأملاح النحاس و الصودا و البوتاسا الكاوية و الليزول و الاتروبين و الكحول و اليود و المخدرات و غيرها و غيرها .
و لقد انتهت مذاكرتها لهذا الشريط التليفزيونى بنظرة متأملة إلى كلبها الصغير ( تانجو ) ثم ما لبثت نظرتها إليه أن تحولت إلى فزع يكسو ملامح وجهها و هى تنادى الكلب القابع أمامها : تانجو .. تانجو .
سألتها و قد رأيت الكلب لا يستجيب للنداء :

ماذا به ؟

قالت : يا مصيبتى ! واضح إن عنده أعراض تسمم بالكوكايين .

- كوكايين ؟

- لا شك .. أنه كوكايين .

- من أين جاء بالكوكايين . هل تعتقدين أنه يشم الكوكايين من خلف ظهرنا ؟

- انظر .. هذه هى أعراض التسمم بالكوكايين .. اتساع حدقة العين .. الشحوب .. بطء التنفس .. سرعة النبض .. العرق البارد .

- و لكن الكلاب لا تعرق يا حبيبتى لأنه ليس لها غدد عرقية .. إنها تلهث بدلا من ...

قاطعتنى :

- هذا العرق بسبب الكوكايين
تجمع الجيران فى شقتنا يواسون زوجتى الباكية , و زادت حالتها النفسية سوءا لأن تانجو قاوم كل محاولات الاسعافات الأولية التى حاولت زوجتى أن تجريها له , فرفض شرب فنجان شاى أسود قوى , و لم يستجب و هى تحاول أن تساعده على التنفس الصناعى !

و أسرعت زوجتى بالكلب إلى الطبيب , و بقيت فى الشقة مع الجيران , و ما لبث أن قال أحدهم :

- كان يجب أن تكون حريصا فلا تترك الكوكايين فى متناول الكلب .

- و لكنى لا أتعاطى الكوكايين .

فعلق آخر : يا رجل لا داعى للانكار .

و قال ثالث ساخرا : لا بد أن تانجو نزل إلى السوق و اشترى لنفسه الكوكايين .

و قال الرابع : تصور أننى لم أشاهد الكوكايين .. أرنى ما شكله و لونه ؟ .. أريد ..

و لم يكمل الرجل عبارته , فقد نهرته زوجته قائلة : هل وصل بك الحال إلى أنك تريد تعاطى الكوكايين مثل هذا الشمام ؟

كان حضور منى - زوجة فؤاد - إلى الشقة فجأة بمثابة إنقاذ لى من ذلك الحرج القاتل و الجيران يرمقوننى بنظرات رخيصة كشمام كوكايين . لقد جاءت منى تولول قائلة إن زوجها يدور فى الغرفة بخطوات متثاقلة كفرانكشتاين , و يتهته بكلمات غير مفهومة .

صاح جار يسألها : هل فمه يلعب ؟

قالت منى : إنه لا يكف عن تلعيب فمه .. كيف عرفت ؟

قال الجار : هذا ما كان يتحدث عنه برنامج " الوقاية خير من العلاج " قال : إن هذه أعراض تيبس العضلات .

لم أعرف ما الذى جرى لفؤاد فى تلك الليلة , فقد انفضوا جميعا من حولى و اتجهوا إلى شقة فؤاد , و من نافذة المنور جاءت أصوات بعض الجيران الذين لا أعرفهم تتحدث عنى ..!! " كنا نظن إنه مجنون و هو يكلم نفسه . لم نعرف أنه يتعاطى الكوكايين " " طبعا هللوسة كوكايين " .

" فعلا قابلته فى الأسانسير مرة و كان فى حالة هذيان يحدث نفسه و يشير بيديه فى الهواء .. لعنة الله على المخدرات " .

عادت زوجتى و كانت سعيدة , فقد فحص الطبيب تانجو و أكد لها أن الكلب ليس مصابا بأى تسمم و لكنه يعانى بعض الاكتئاب , و لا بد له من نزهة يومية .

اضطررت أن أقوم بهذه المهمة مع الكلب بعد أن لزمت زوجتى الفراش . فلقد فتحت زوجتى التليفزيون فوجدت رجلا اسمه الدكتور راتب يصف هذه الأعراض : الرغبة فى العزلة , و الضعف العام , و افرازات من الأنف و الفم .

و لزمت زوجتى الفراش و قد انتابتها هذه الأعراض , لكنها لا تعرف اسم المرض لأنها لم تشاهد البرنامج من بدايته .

بناء على رغبة زوجتى , اتصلت بالتليفزيون لأعرف عنوان الدكتور راتب الذى تبين أنه ظهر فى برنامج آخر غير برنامج الدكتور عتريس .

كان الدكتور راتب كريما مهذبا .

- سألنى : متى ظهرت عليها أعراض المرض ؟

- منذ يومين .

- هل تراها ميالة إلى العزلة ؟

- جدا .

- و تعانى ضعفا عاما ؟

- أجل يا سيدى .

- و ريشها ؟ هل هى منفوشة الريش ؟

- و لكن زوجتى ليس لها ريش يا سيدى .

- فهمت ..! يا سيدى أنا كنت أتحدث فى التليفزيون عن مرض النيوكاسل الذى يصيب الدجاج , فأنا طبيب بيطرى

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق