الجمعة، 14 ديسمبر 2012

أهلا يا حب

                                                                من المعالم 

  من المعالم المميزة لحلول الربيع فى العالم كله : تفتح الزهر , و اخضرار الشجر , و الاحساس ببهجة الدنيا , و استعداد القلب لآهات الهوى , و استعداد وزراء التخطيط لزيادة جديدة فى النسل .

غير أن المعالم المميزة للربيع عندنا بالذات تختلف نوعا , إذ تكتسى الدنيا بلون ذهبى شاعرى هو صفرة الخماسين , و ينفض الطير عنه خمول البيات الشتوى , فتطير أسراب الهاموش فى كل اتجاه لتعلن مولد فصل الربيع المبارك , فما أن تحيط أسرابه بالإنسان ساعة العصارى عائدة بعد الشتاء , حتى يشعر بدغدغة فى مشاعره , و يخفق منه القلب , و يستغرق فى أحلام الحب و تنهيدات المساء !
و لعل ما يؤكد أن أغانينا غير واقعية , هو خلوها تماما من الاشارة إلى الهاموش , فهى تكتفى بأن تشير إلى تفتح الزهر و تورق الغصن و لا تشير إلى إقبال الهاموش , كما ندهش حقا لأغنية تقول آدى الربيع عاد من تانى و لا تقول آدى الهاموش عاد من تانى , كذلك لم نسمع على لسان عاشق موالا يعبر فيه عن مشاعره التى اتقدت مع مقدم الربيع بقوله : ابكى يا عين ع اللى فاتوه احبابه .. فاتوه وحيد ماحد يطرق بابه .. و عاد حنينه و أنينه و قادت الاشواق .. لما عاد الهاموش تانى بأسرابه .
صديق العاشق !
بل إن دور الهاموش لا يقتصر على شعللة العواطف فى قلوب المحبين عند مقدمه بعد البيات الشتوى , فإن هذا الكائن الربيعى الرقيق الجميل - الهاموش - يعتبر صديقا للعشاق , فربما لم يتح لك ارتياد حديقة عامة هادئة ساعة العصارى , إذ ستلمح أكواما عالية أشبه بأكوام الردة هنا و هناك , و لو أنك مددت يدك إلى أحد هذه الأكوام و أزلت جانبا من الردة لوجدتها هاموشا كثيفا يخفى تحته عاشقين غارقين فى القبلات , و كم هو لطيف من الهاموش أن يتراكم فوق العشاق فى حديقة عامة ستر و غطا ليخفيهم عن فضول العيون و العوازل و رقابة المصنفات الفنية .
... و دور الشرير ؟
غير أن هذا الكائن الربيعى الرقيق الجميل - الهاموش - لم يسلم من الهجوم القاسى كحظ كل شئ جميل فى بلادنا , إذ شنت الصحف - منذ سنوات - حملة على محافظة القاهرة الكبرة تطالب فيها أجهزة النظافة بإزالة هذا البلاء الكثيف من جو القاهرة و الجيزة , ثم اشتدت الحملة عندما فوجئ الناس ذات يوم بأن درجة الرؤية فى ميدان التحرير أصبحت صفرا بسبب كثافة الهاموش , و ظهرت أجسام الناس أشبه بالسمك المشوى بالردة قبل دخوله النار .

و استغل أحد المخرجين الأذكياء تلك الضجة الكبرى , فجاء يطلب منى أن أكتب قصة سينمائية اسمها ( الهاموش ) , ليخرجها على غرار فيلم الطيور لهتشكوك , فكما هاجمت الطيور قرية فى الفيلم الهتشكوكى , يهاجم الهاموش سكان القاهرة , و مع أن الحدوتة فى دماغه جاهزة - قال المخرج - إلا أنها ينقصها " الفيلين " أو شرير الفيلم , ذلك أن الفيلم العربى عادة كحدوتة ستى تماما يقوم على ثلاثة أركان : الشاطر حسن البطل , و ست الحسن البطلة , أما الشرير فهو أمنا الغولة . و لا بد من دور لأمنا الغولة .. و اقترحت على المخرج أن يكون الشرير هو صاحب فكرة إطلاق الهاموش على القاهرة , فهو مجرم خطير هارب من العدالة و الشرطة تتعقبه , لكنه فى ظل الهاموش يمشى آمنا فى الشوارع مادام الهاموش يغطيه كله طوال سيره ثم يتبين فى نهاية الفيلم أنه يربى الهاموش خصيصا لهذا الغرض , و أن عنده ( غية ) هاموش فى مغاراته بالجبل , و أنه يعتز بهاموشتين اعتزازا خاصا هاموشة اسمها ( بوسى ) حاطط لها فيونكة حمرا فى رقبتها , و هاموش ذكر اسمه ( لاكى )
نار الشوق !
ثم جاءنى المخرج يقول أن الموزع غير راضٍ عن أن يكون اسم الفيلم ( الهاموش ) فهو اسم لا يصلح للشباك و لا بد من اسم فيه سكس , و بعد استعراض أسماء " هاموش على الجسم الوردى " و " سيقانها و الهاموش " و غيرهما , استقر الرأى على اسم " جسد و حب و دلع و هاموش " .
ثم تحولت القصة إلى قصة جديدة أخرى . فالبطل و البطلة تزوجا بعد قصة حب نارية , و ما أن يمضى شهر العسل حتى تدب بينهما الخلافات بسبب الملل . و فى كل خناقة تغضب البطلة و تلم هدومها و تروح على بيت أمها , و فى آخر مرة , بعد أن ظلت فى بيت أمها أسبوعين , يشعر نحوها البطل بالشوق , لكنه يفاجأ و هو فى طريقه إلى بيت أمها بأسراب الهاموش تحيل الدنيا إلى ضباب هاموشى تتعذر معه الرؤية , و يعود البطل مع البطلة إلى بيتهما بصعوبة , و لكنه لا يستطيع بعد ذلك أن يرى وجهها بسبب الهاموش الكثيف و كذلك هى , و مع الأيام يكاد يجن شوقا إلى رؤياها بينما هى يمزقها حنين جارف إلى رؤياه . و يظلان على هذه الحال شهورا طويلة تمتنع خلالها الخلافات بينهما تماما , و هنا ندرك المغزى العظيم و هو أن الزواج لا تفسده إلا الرؤية اليومية لبعضهما البعض , فهى لا تتيح فرصة للشوق و الحنين . و ينهار البطل من لهفته و اشتياقه إلى رؤيتها و هما فى بيت واحد , و تنتاب البطلة حالات هستيرية من شدة شوقها إلى رؤياه . و يضرب رأسه فى الحائط باكيا : عايز أشوفك عايز أشوفك . و تغنى له هى أغنية دامعة ماليش أمل فى الدنيا دى غير إنى أشوفك بعنيه , كما حدد المخرج موقفا آخر تغنى له فيه : فرق مابينا ليه الهاموش
و ينتهى الفيلم نهاية سعيدة إذ يقرر البطل و البطلة السفر إلى أثينا لرؤية بعضهما البعض, و لا شك أن التصوير فى أثينا - قال المخرج - يعطى الفيلم صفة العالمية .
من أنا ؟
و لم نتفق بعد ذلك على تفاصيل هذه القصة العالمية المؤثرة , إذ حدث - أمام الحملة الصحفية على المحافظة - أن أدلى مسئول بالمحافظة - و والله هذا حصل فعلا - ببيان قال فيه أن مقاومة الهاموش ليس من اختصاص المحافظة و لكنها من اختصاص وزارة الزراعة لأن الهاموش من الحشرات الزراعية التى تتجه إلى المزروعات لا إلى بنى آدم !
يومها جاءنى المخرج يسألنى - بناء على هذا البيان - أى أنواع المزروعات بالضبط ينتمى الإنسان القاهرى ؟ هل أصله بدنجانة ؟ هل أصله ملوخية ؟

و نصحته أن يتصل بمسئول المحافظة الذى قال هذا الكلام فأدار قرص التليفون و راح يسأله :

- بمناسبة بيانكم عن الهاموش .. هل يمكن الاستفسار عن بعض النقاط الغامضة ؟

- مثل ؟

- هل الإنسان القاهرى أصله كوسة ؟

- كل شئ جايز .. اسأل وزارة الزراعة .

- ممكن يكون أصله قطن ؟

- كل شئ جايز .

- إذا كان أصلنا قطن . هل تقترح أن نطالب وزارة الزراعة برشنا بالتوكسافين ؟

- كل شئ جايز.

- هل يفهم من بينكم أن الهاموش يفقس و يتوالد على لحم البنى آدم القاهرى دون أن يشعر أن ملايين الهاموش قد فقس فوق جلده ؟

- كل شئ جايز .

- هل تقترح سيادتك فى هذه الحالة أن يجمع كل إنسان قاهرى عددا من الأنفار علشان ينقوا لطع الهاموش من على جلده ؟

- كل شئ جايز .
و اختمرت القصة فى ذهن المخرج قصة رائعة حقا بعد هذا الحوار .

قصة شاب يعيش سعيدا بين أسرته و يتأهب للزواج من البطلة الجميلة . و ذات يوم يسمع بيان المحافظة بأن الهاموش من الحشرات الزراعية التى تتجه إلى المزروعات لا الانسان , فيدرك من تراكم الهاموش عليه أنه قطعا من المزروعات . هنا يواجه والده و يقول له فى موقف مأساوى قائلا : أنا مش ابنك . أنا عرفت كل حاجة أنا عرفت كل حاجة . أنا أبويا زرعاية و أمى زرعاية ثم يرتمى فى أحضان أمه مودعا .. شاكرا لها تربيتها له و يخرج من البيت هائما على وجهه يبحث عن أسرته الحقيقية , متسائلا إن كان أصله فول حراتى أم عدس أسود أم ارنبيط , و تحرص البطلة على الوقوف إلى جانبه فى محنة البحث عن أصله و فصله .

و ذات ليلة يفر البطل من جانبها وسط الحقول و يشعر أن قدميه تجتذبانه رغما عنه إلى غيط الخرشوف . لا بد أن أصله خرشوفة . و يقترب من أكبر خرشوفة يسألها :

- ماما ؟؟

لكن البطلة تلحق به و تجتذبه برفق , و تجلس معه على شاطئ الترعة , ثم تغيب معه فى قبلة طويلة , ثم بعد القبلة تحرك شفتيها و كأنها ( تستطعم ) شيئا , ثم تنفرج أساريرها لتعلن أنها قد عرفت أصله و فصله بعد هذه القبلة , و يسألها فى لهفة : لقيتى طعمى إيه ؟ بامية ؟ قلقاس ؟ فترد لتزف إليه البشرى : لا .. بصل .

هنا ينتهى الفيلم و البطل يحضن بصلة فى سعادة ناطقا بالعبارة الأخيرة فى معظم الأفلام : أمى حبيبتى .. أمى حبيبتى .
و لم يظهر الفيلم , و بقى الهاموش عاما بعد عام , يخرج له كل يوم موكب عظيم فخم من رجال المحافظة , يتجهون إلى سرادق مقام بأعلى المقطم , يعلنون فيه - مع رؤية أول هاموشة فى الأفق - ثبوت رؤية الربيع !                                                                                                                  


                                                                                                         كتابات ساخرة لأحمد رجب



ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق