رسائلُ ما بعد الموت
أول من أرسل رسالة بعد الموت كان فلاحا من بابل الكلدانية، أثناء إمبراطورية بختنصر العظيمة، أمضى حياته وهو يقوم بأمرين اثنين فقط: يُسبح حالما باسم المولى الأعظم مردوخ، ويغرس الشجر .. يُطلق على كل واحدة منهن اسما خاصا، يؤكد أن كل ميت يُدفن تخرج شجرة بدلا منه في مكان آخر، هي طريقة الأرض في تقديم العزاء والتأكيد على أحقيتها بجسد الميت، ارتباط الشجرة بالآلهة كانتقال بين الموت والحياة .. داهمه مرض الفالج وهو في الخمسين من عمره، فانجرف أثناء حمأة احتضاره في حالة تشبه الهلوسة، تشبث برقبة ابنه ثم همس بجنون "سأكتب ما أراه في ورقة ثم سأرميها" .. ظلّت تسقط في السديم حتى وصلت بعد 10 قرون تقريبا إلى الأرض، وجدها طفل يتجول في أطراف مدينة الحيرة المقفرة، هاربا في كآبة عزلته الناقمة، غاضبا من تبطُّل والده الذي يكتفي بالوقوف على أبواب المناذرة لاستجداء المال، ملقيا أشعارا من المديح الفارغ الممل، رأى الورقة تنحدر من حلق السماء، تلمع في ارتداد الشمس، حتى سقطت بخفة على ظهر تل منخفض، فتحها فوجد فيها كلمات بلغة غريبة، ذهب بها إلى أحد الأحبار فأخبره بترجمتها "إنها خدعة" .
بعد 400 عام تقريبا وُجدت الرسالة الثانية .. أرسلها جندي هندي هلك في طاعون اجتاح قريته، بعد عام من تركه العمل لدى الإمبراطور شاندراغُبتا ماوريا .. قبل موته بساعات اتكأ على شجرة ليمون في مقدمة بيته، أخذ يُحدق في حركة الموت التي تعصف بقريته، بعد أن عصفت بزوجته قبل يومين، شبيهة بتلك التي شاهدها في فتوحات إمبراطوره المعظّم، يتفكّر في الحاجز الخفي الذي يفصل بين الموت والحياة، كالحاجز الهلامي بين النوم واليقظة، ولذا تساءل إن كان يستطيع إرسال رسالة من هناك، تشرح لماذا يحدث كل هذا .. وجدها بعد 12 قرنا تقريبا جندي سكّير في النرويج، هرب من معركة هافرسفيورد التي وحّد فيها الفايكنج مملكتهم، أخذ يجوب السهول والقرى هربا إلى لامكان، دون وعيٍ بما يحدث، يسرق ويضاجع وينام في الخلاء بعيدا عن أعين المترصدين، اتكأ ذات ليلة على ظهر صخرة في الظلمة وهو يلعن الحرب، ملوحا بزجاجة متسخة في وجه السماء، رفع رأسه ليلقي مزيدا من اللعنات، فلمح الورقة تسقط بخفة ثابتة وهي تلمع في ارتداد القمر، فتحها بدهشة فوجد لغة معقدة، احتفظ بها لسنوات، يمر بها على جميع من يصادفه، حتى ترجمها له رحّال هندي في يوكشر "إيّاكم أن تفيقوا" .
بعد 500 عام وجدت الرسالة الثالثة .. أرسلتها عجوز عاشت في مدينة رافينا الإيطالية، طوال ثلاث سنوات خضعت فيه المدينة لحصار من جيوش ثيودوريك القوطي، بعد أن تحصّن فيها أودواكر ملك البرابرة، تمّ قطع الإمدادات حتى زحف الجوع والانهيار كوبال لا محيد عنه، وفي الليلة التي قُـتل فيها أودواكر على يد ثيودوريك في احتفال مزيف بالصلح، جلست العجوز تحدّق في جدارها بجانب عشرات من الأحفاد النائمين على جوعهم، تجد صعوبة في شرح ما يحدث لهم أكثر من صعوبة أن تصبّرهم، ولذا قررت بنشوة ساخرة كتابة رسالة بعد الموت، حينما يشرح لها الرب حقيقة ما يحدث .. وجدها شاب أيبيريّ في قرطبة الأندلس بعد 9 قرون، كان متفرغا بفضل ثروة والدته للقراءة والكتابة والمتعة، يقرض الشعر ويفكر بالبدء في تأليف كتاب عن الفروق الجوهرية بين فلسفة ابن سينا والفارابي، يجوب الأسواق في العصر متنقلا من مكان إلى مكان، ثم يذهب في المغرب إلى حمام بجانب قصر دمشق يتجمع فيه مع رفقة مخملية تتناول الأدب والفسلفة مثله، خرج وحيدا ذات ليلة قبل صلاة العشاء، وقف لحظة يحدق بشرود في الشارع المضاء بالمصابيح، فلاحظ ورقة تتهادى من السماء، فتحها فلم يستطع قراءة ما كتب فيها، مر بها على الوراقين لسنوات، حتى وقع على رجل من روما أتى قرطبةَ للدراسة، أخبره بترجمتها "لا أحد يعلم"
بعد 400 عام تقريبا وجدت الرسالة الرابعة .. أرسلها كاهن بوذي في الصين، حينما اجتاح جنكيز خان بجيشه المغولي الجزء الشمالي منها، هرب الكاهن إلى ليشان واعتكف مع الآلاف أمام تمثال بوذا المعظّم، يترقب في أي لحظة نَـبْلا يخترق رأسه وسكاكينا تغرس في جسده، ولكنه أصيب بالتهاب رئوي حاد، جلس يحتضر أمام تمثال بوذا، يتذكر ما سمعه من تاجر حدّثه عن جندي اسكندنافي قبل 300 عام، يزعم أنه استقبل ورقة من السماء، ولذا قرر أن يرسل بدوره رسالة من بوذا حينما يقابله، قبل أن تُنسخ روحه في جسد آخر .. وجدها بعد 6 قرون نجديٌّ هاجر من المجمعة إلى مدينة الزبير، كان مقربا للشاعر محمد ابن لعبون قبل أن يختلف مع ابن زهير ويؤدي ذلك إلى طرده، يحاول أن يقرض الشعر كصاحبه دون جدوى، يسهران سويا برفقة ثلة من أصحاب الطرب كل يوم، تتنازعه الألسن كتابعٍ لابن لعبون في لهوه فيحزّ ذلك في قلبه، ولكنه لا يجد من القوة ما يدفعه للابتعاد، خرج ذات ليلة من السهرة ووقف أمام السوق الفارغ، بكآبة الشعور الطفيف بالذنب، فشاهد الورقة تسقط من السماء بهدوء، تخترق كدرة الغبارة المعلقة في الفضاء، فتحها فلم يستطع قراءة ما فيها، احتفظ بها لسنوات حتى توفي في الكويت، فأخذها ابنه الذي استغرب وجود ورقة بلغة غريبة لدى والده، وبعد سنوات قابل انجليزيا عاش فترة في الصين ويعمل في بعثة البحرية الملكية البريطانية لإجراء مسح جيولوجي في الكويت، فترجمها له "لازلتُ أنا"
بعد 200 عام تقريبا وجدت الرسالة الخامسة .. أرسلها جندي بريطاني مرابط مع وحدته في مدينة كاليه، أمضى في الخدمة العسكرية أقل من عام، شاهد فيها من العذاب ما جعله يجدد إيمانه بالمسيح، كمخلص يترقبه في نهاية النفق، يقرأ في المدينة تفاصيل معركة نورثهامبتون حينما أُسر هنري السادس، ويترقب مصيبة تحيق بالجميع، ولذا حينما داهم الجيش الفرنسي حصون المدينة هرب من منفذ خلفي، ليس خوفا من الموت ولكن خوفا من أن يرتكب إثم قتل إنسان آخر، صادفته كتيبة فرنسية فقبضت عليه وهمّت بإعدامه، فكر في موته كخلاص يريد من الجميع أن يفهمه، ولذا ابتسم أمام فوهة البندقية، وأخذ يتخيَّل حالماً في نشوته لو أنّ بإمكانه أن يرسل رسالة من هناك، يشرح فيها كل شيء .. وجدها بعد 5 قرون تقريبا شاب برازيلي هاجر من ريو دي جانيرو إلى ديترويت في أمريكا، ليعمل مهندسا في الفرع الرئيسي لشركة جنرال موتورز، خرج ظهيرة يوم جمعة كئيب ضمن 20 ألفا من المسرّحين في مختلف الفروع، بعد إعلان الشركة لإفلاسها إثر الأزمة الاقتصادية، وقف يُحدّق بكآبة في المبنى الهائل، يحاول استيعاب ما يحدث، فشاهد ورقة تتهادى من عمق السماء بخفة متناهية، لتسقط أمامه، فتحها فوجد مكتوبا فيها بإنجليزية قديمة "لا تحاول، الأمر لا يستحق"
أول من أرسل رسالة بعد الموت كان فلاحا من بابل الكلدانية، أثناء إمبراطورية بختنصر العظيمة، أمضى حياته وهو يقوم بأمرين اثنين فقط: يُسبح حالما باسم المولى الأعظم مردوخ، ويغرس الشجر .. يُطلق على كل واحدة منهن اسما خاصا، يؤكد أن كل ميت يُدفن تخرج شجرة بدلا منه في مكان آخر، هي طريقة الأرض في تقديم العزاء والتأكيد على أحقيتها بجسد الميت، ارتباط الشجرة بالآلهة كانتقال بين الموت والحياة .. داهمه مرض الفالج وهو في الخمسين من عمره، فانجرف أثناء حمأة احتضاره في حالة تشبه الهلوسة، تشبث برقبة ابنه ثم همس بجنون "سأكتب ما أراه في ورقة ثم سأرميها" .. ظلّت تسقط في السديم حتى وصلت بعد 10 قرون تقريبا إلى الأرض، وجدها طفل يتجول في أطراف مدينة الحيرة المقفرة، هاربا في كآبة عزلته الناقمة، غاضبا من تبطُّل والده الذي يكتفي بالوقوف على أبواب المناذرة لاستجداء المال، ملقيا أشعارا من المديح الفارغ الممل، رأى الورقة تنحدر من حلق السماء، تلمع في ارتداد الشمس، حتى سقطت بخفة على ظهر تل منخفض، فتحها فوجد فيها كلمات بلغة غريبة، ذهب بها إلى أحد الأحبار فأخبره بترجمتها "إنها خدعة" .
بعد 400 عام تقريبا وُجدت الرسالة الثانية .. أرسلها جندي هندي هلك في طاعون اجتاح قريته، بعد عام من تركه العمل لدى الإمبراطور شاندراغُبتا ماوريا .. قبل موته بساعات اتكأ على شجرة ليمون في مقدمة بيته، أخذ يُحدق في حركة الموت التي تعصف بقريته، بعد أن عصفت بزوجته قبل يومين، شبيهة بتلك التي شاهدها في فتوحات إمبراطوره المعظّم، يتفكّر في الحاجز الخفي الذي يفصل بين الموت والحياة، كالحاجز الهلامي بين النوم واليقظة، ولذا تساءل إن كان يستطيع إرسال رسالة من هناك، تشرح لماذا يحدث كل هذا .. وجدها بعد 12 قرنا تقريبا جندي سكّير في النرويج، هرب من معركة هافرسفيورد التي وحّد فيها الفايكنج مملكتهم، أخذ يجوب السهول والقرى هربا إلى لامكان، دون وعيٍ بما يحدث، يسرق ويضاجع وينام في الخلاء بعيدا عن أعين المترصدين، اتكأ ذات ليلة على ظهر صخرة في الظلمة وهو يلعن الحرب، ملوحا بزجاجة متسخة في وجه السماء، رفع رأسه ليلقي مزيدا من اللعنات، فلمح الورقة تسقط بخفة ثابتة وهي تلمع في ارتداد القمر، فتحها بدهشة فوجد لغة معقدة، احتفظ بها لسنوات، يمر بها على جميع من يصادفه، حتى ترجمها له رحّال هندي في يوكشر "إيّاكم أن تفيقوا" .
بعد 500 عام وجدت الرسالة الثالثة .. أرسلتها عجوز عاشت في مدينة رافينا الإيطالية، طوال ثلاث سنوات خضعت فيه المدينة لحصار من جيوش ثيودوريك القوطي، بعد أن تحصّن فيها أودواكر ملك البرابرة، تمّ قطع الإمدادات حتى زحف الجوع والانهيار كوبال لا محيد عنه، وفي الليلة التي قُـتل فيها أودواكر على يد ثيودوريك في احتفال مزيف بالصلح، جلست العجوز تحدّق في جدارها بجانب عشرات من الأحفاد النائمين على جوعهم، تجد صعوبة في شرح ما يحدث لهم أكثر من صعوبة أن تصبّرهم، ولذا قررت بنشوة ساخرة كتابة رسالة بعد الموت، حينما يشرح لها الرب حقيقة ما يحدث .. وجدها شاب أيبيريّ في قرطبة الأندلس بعد 9 قرون، كان متفرغا بفضل ثروة والدته للقراءة والكتابة والمتعة، يقرض الشعر ويفكر بالبدء في تأليف كتاب عن الفروق الجوهرية بين فلسفة ابن سينا والفارابي، يجوب الأسواق في العصر متنقلا من مكان إلى مكان، ثم يذهب في المغرب إلى حمام بجانب قصر دمشق يتجمع فيه مع رفقة مخملية تتناول الأدب والفسلفة مثله، خرج وحيدا ذات ليلة قبل صلاة العشاء، وقف لحظة يحدق بشرود في الشارع المضاء بالمصابيح، فلاحظ ورقة تتهادى من السماء، فتحها فلم يستطع قراءة ما كتب فيها، مر بها على الوراقين لسنوات، حتى وقع على رجل من روما أتى قرطبةَ للدراسة، أخبره بترجمتها "لا أحد يعلم"
بعد 400 عام تقريبا وجدت الرسالة الرابعة .. أرسلها كاهن بوذي في الصين، حينما اجتاح جنكيز خان بجيشه المغولي الجزء الشمالي منها، هرب الكاهن إلى ليشان واعتكف مع الآلاف أمام تمثال بوذا المعظّم، يترقب في أي لحظة نَـبْلا يخترق رأسه وسكاكينا تغرس في جسده، ولكنه أصيب بالتهاب رئوي حاد، جلس يحتضر أمام تمثال بوذا، يتذكر ما سمعه من تاجر حدّثه عن جندي اسكندنافي قبل 300 عام، يزعم أنه استقبل ورقة من السماء، ولذا قرر أن يرسل بدوره رسالة من بوذا حينما يقابله، قبل أن تُنسخ روحه في جسد آخر .. وجدها بعد 6 قرون نجديٌّ هاجر من المجمعة إلى مدينة الزبير، كان مقربا للشاعر محمد ابن لعبون قبل أن يختلف مع ابن زهير ويؤدي ذلك إلى طرده، يحاول أن يقرض الشعر كصاحبه دون جدوى، يسهران سويا برفقة ثلة من أصحاب الطرب كل يوم، تتنازعه الألسن كتابعٍ لابن لعبون في لهوه فيحزّ ذلك في قلبه، ولكنه لا يجد من القوة ما يدفعه للابتعاد، خرج ذات ليلة من السهرة ووقف أمام السوق الفارغ، بكآبة الشعور الطفيف بالذنب، فشاهد الورقة تسقط من السماء بهدوء، تخترق كدرة الغبارة المعلقة في الفضاء، فتحها فلم يستطع قراءة ما فيها، احتفظ بها لسنوات حتى توفي في الكويت، فأخذها ابنه الذي استغرب وجود ورقة بلغة غريبة لدى والده، وبعد سنوات قابل انجليزيا عاش فترة في الصين ويعمل في بعثة البحرية الملكية البريطانية لإجراء مسح جيولوجي في الكويت، فترجمها له "لازلتُ أنا"
بعد 200 عام تقريبا وجدت الرسالة الخامسة .. أرسلها جندي بريطاني مرابط مع وحدته في مدينة كاليه، أمضى في الخدمة العسكرية أقل من عام، شاهد فيها من العذاب ما جعله يجدد إيمانه بالمسيح، كمخلص يترقبه في نهاية النفق، يقرأ في المدينة تفاصيل معركة نورثهامبتون حينما أُسر هنري السادس، ويترقب مصيبة تحيق بالجميع، ولذا حينما داهم الجيش الفرنسي حصون المدينة هرب من منفذ خلفي، ليس خوفا من الموت ولكن خوفا من أن يرتكب إثم قتل إنسان آخر، صادفته كتيبة فرنسية فقبضت عليه وهمّت بإعدامه، فكر في موته كخلاص يريد من الجميع أن يفهمه، ولذا ابتسم أمام فوهة البندقية، وأخذ يتخيَّل حالماً في نشوته لو أنّ بإمكانه أن يرسل رسالة من هناك، يشرح فيها كل شيء .. وجدها بعد 5 قرون تقريبا شاب برازيلي هاجر من ريو دي جانيرو إلى ديترويت في أمريكا، ليعمل مهندسا في الفرع الرئيسي لشركة جنرال موتورز، خرج ظهيرة يوم جمعة كئيب ضمن 20 ألفا من المسرّحين في مختلف الفروع، بعد إعلان الشركة لإفلاسها إثر الأزمة الاقتصادية، وقف يُحدّق بكآبة في المبنى الهائل، يحاول استيعاب ما يحدث، فشاهد ورقة تتهادى من عمق السماء بخفة متناهية، لتسقط أمامه، فتحها فوجد مكتوبا فيها بإنجليزية قديمة "لا تحاول، الأمر لا يستحق"
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق