رحلة الأبله
هكذا وُلدتُ، مشوهاً كما يقولون، رجلاي مقوستان، يداي طويلتان، جفناي متهدلتان، فمي يمتد من أذنٍ كبيرة عجيبة الى أذنٍ مثلها، وعندما نمت أسناني مُنحت فكاً بارزاً عظيماً، ورغم كل شيء كنت أكبر، التهمتُ في البدء ثدي أمي التي كانت تُرضعني وهي تبكي ، ثم لما نشف حليبها أكلتُ كل ما وقعت عليه عيني، خبز ناشف، فتات او بقايا أطعمة، لم يكن أحد ممن حولي ينتبه لي ، كنت ُ مثل كلبٍ مشرد كلما اقتربتُ من أحد إخوتي أحظى برفسةٍ مؤلمة ، لم أبالٍ كثيراً ، تعودتُ على طريقتهم حتى بات رمي أختي الصغرى لي بقطعة خبزٍ طازجة أمرٌ مُستغرب ، إنما كنتُ أفرح بالعطايا وآكلها بتلذذ.
دخلتُ الى المدرسة بطريقةٍ عشوائية، كنتُ ألحق بإخوتي وأطل من نافذة الفصل على الطلاب اللامعون وأتعلم من أستاذهم ما يعلمهم ، وهو يراقبني ولا يقول شيئاً، وكنتُ تحديداً أنجذب للحساب وأحل مسائله بعقلي والطلاب واجمون حتى أتى يوم مختلف، يوم أحسستُ به متضامناً معي، كنت قد تحممت في النهر المجاور ، سرقتُ من بيتنا صابونة فركتُ بها وجهي وثيابي وجلست تحت الشمس لنجف معاً، ثم سرحتُ شعري الطويل بيدي كما أراهم يفعلون ولبست الثياب المهترئة لكن النظيفة هذه المرة ، أخذت عرق ريحان من أمام باب عمدة القرية وهرعت الى المدرسة ، وقفت بالنافذة مثل كل يوم وعندما طرح أستاذ الحساب المسألة وسكت الطلاب صرخت أنا بالجواب، نظر اليّ بطرف عينه وأخذ يقرع التلاميذ بأن ابلهاً مثلي يعرف ما لا يعرفون وعجبتُ أنا ولأول مرة عرفتُ أنهم يطلقون علي نعت الأبله.
خرجت من المنطقة وأنا أمشي دون هدفٍ محدد ، لم أتعود أن أبكي أو أحزن ولا أعرف ما معنى الأبله تحديداً ، فقط كان شعوري انها كلمة رديئة لا تناسبني ، ثم أنني توغلتُ في المزارع وخرجت منها وأنا لا أعلم كم مشيت ولا كم شمس وقمر عبرا بي، مشيت ختى أصبحتُ وسط صحراء باردة وعندما انتبهت كان الوقت ليلاً وكان قد تعاقب علي سبعة أهله ان كنت أذكر، حاولت أن أذكر ما استطعت تماماً انما اقتنعت انها سبعة أيامٍ بلياليها ، جلست الى حضن كثيب وضوء البدر يتشكل وينتشر ثم يختفي خلف غيمة، فصنعتُ لي فراشا من الرمل الناعم وأهلتُ علي كثير من الرمل غطيت جسدي به ، تركتُ يدي اليمنى خارج فراش الرمل ورأسي فقط وغفوت.
في النوم رأيتني أطير الى الأسفل، أسقط طائراً في هوةٍ خضراء ، أرى في جدرانٍ دائرية صناديقٌ مزركشة ، ولا أفكر في الإمساك بها، لم أخف، كنتُ أبحث عن قرار الهوة وحسب، ثم تسليت بمعادلات بأعدادٍ مفردة، عددتُ حروف ووزنتها ومنحت الهاء ثمنمائة نقطة والكاف مائتين والراء اربعمائة وتشكلت أمامي أبواب ٌ مغلقة في الهواء وكنت كلما منحت حرفاً عدد فُتح أمامي باب وفتحته، كنت أذكر النون ورقمٍ لا أذكره يلملم حولي يراع مضيء ويشرع لي باب كهفٍ في خاصرة المكان ، ذلفتٌُ اليه ووجدت مرآةٍ كبيرة ورأيتُ وجهي الذي أعرف وجسدي الذي أذكر الا ان لي جناحين خضراوين يبرقان كأنهما من جوهر الزمرد هكذا اتى في بالي اسم ووصف لشيء لا أعلمه لكنني أدركه وبعد ان رأيت نفسي ابتسمت وحمدت الله.
في لحظة التمام للحمدلله من قلبي تكسرت المرآة وظهر مكانها شيخٌ جليل، أمرني بإتباعه ففعلت ودخلنا الى ما يشبه الكهف، أشار لي بالجلوس فجلست عند قدميه ، أراد ان ارتفع فأبيت ، جلست وهو يضع على كتفي الأيمن صولجان ذهبي في رأسه جوهرتين منبثقتين من رأس أفعى ملتفة واحدة حمراء وأخرى خضراء ( الجوهرتان) وكلما أسر لي بشيء التفت الأفعى وأستطالت حتى وصل الي رأسها ، ثم أنها زحفت على كتفيّ فآنست فرحة خفية ، وأمانٌ لا يشبه شيء مما شعرت به في كل ما مضى، ثم أن الشيخ قال لي بصوت واضح وقور : يا بني خلعنا عليك مفتاح الحكمة ومنحناك رضا القلب الرضي في أصله وقد امتحنا بك من حولك واختبرناك ، ووجدنا فيك ما جعلنا نصطفيك فأنت الآن في حلٍ من هيئتك الأولى فأختر ما تريد أن تكون عليه لنعطيك ما تروم.
أخذت أفكر وقد غزاني نورٌ لم أعرفه ولم أعيه من قبل، وبعد برهة طويلة قلت للشيخ: يا شيخنا رضيتُ بوجهي وجسدي وحظي من أهلي ومن الناس ، كل ما أرغب به الآن أن أعود بهيئتي الى أهلي وقريتي على أن اكون غنياً وذو علم وحكمة. فقال له الشيخ : لبيك، وما طلبت لك.
وكان ان ارتفعت الشمس في كبد السماء فاستيقظت من نومي ، ورأيت ان التراب لم يعد يغطيني كلي ثم أنني استغربت من شكل ساعدي ورجلي وقد نموا بشكل لا يتناسب ونومي لليلة، ثم انني وجدت شعري وقد طال الى ركبتي وأكثر، لا أعرف ما حدث ، كل ما أريده الآن شربة ماء ولقمة طعام ، عدت من نفس الطريق، لم أجد كل المزارع، وجدت بيوتاً مختلفة، شارفت على قريتي واستغربت قربها ، لم أجد ما أعرفه الا النهر والصخور التي حوله وبعض أشجار الليمون ، طللت في النهر فأستغربت مظاهر النعمة التي تبدو علي وكيف ان شعري الطويل قد التم في ضفيرة مرتبه يلتف حولها ثعبان بعينين من جوهر أحدهما خضراء والأخرى حمراء وأن لي وجه جميل وان لحيتي مشذبه وأبدو شاباً مُعافى وذو جاه ، أرتدي حلة فاخره وأحمل خرجاً مليئاً.
مررت بجوار المدرسة فلم أجدها ذهبت الى موقع بيت أهلي لأرى والدتي وأفرحها ، فوجدت أطفالاً صغاراً يلعبون سألتهم ان كان هذا بيت عطا الله فقالوا نعم واتضح انهم ابناء أخي، كيف ؟ متى ؟ احترت كثيراً، طرقت الباب وخرج لي أخي الاكبر الذي كان وسيماً كما أذكر فوجدت رجلاً منهكاً ونحيلاً يسألني ماذا أريد فسألته عن والدي فقال انهما توفيا ، ثم بعد ان نظر اليّ بتفحص دعاني الى الشاي فأجبته ودخلنا الى الدار، أخذت اتذكر زاويتي والقش الذي نمت عليه والتنور الذي تدفأت به عوضا ً عن حضن أمي ورفسات أخي هذا لي كلما حاولتُ الإقتراب منه ، انتبهت على صوت أخي يدعوني لتناول الشاي وأقراص شعير فقيرة فأكلت وشربت وحمدت الله ومن ثم سألته ان كان لهم أخ اسمه جواد في يومٍ من الأيام ، فانتفض وارتعش قليلاً ثم قال انه غير مسئول لو سرق مني شيئا وانه غادر منذ اكثر من اربعة عشر عاماً ولا يعرف عنه شيئاً.
هززتُ رأسي قائلاً لا تخف يا أخي لم يسرق مني شيئاً ، بل أنه بعث لك ولإخوتك هذا معي وأخرجت من الخرح صرة ذهب كبيرة ومنحتها اياه وكان الثعبان في رأسي يلتف ويلتف فآثرت أن أخرج واستأذنت وهو يلحقني، أين هو الآن جواد؟ هل أصبح غنياً؟ ، لقد افتقدناه ؟ هل تعرف عنوانه؟
رددت عليه : جواد تُوفي وهذا دين له علي وكان قد أوصاني ان هو مات قبل ان ارد له الأمانة أن امنحها لكم وها قد فعلت فعظم الله أجركم ووداعاً.
ثم أنني عدت أدراجي بقليلٍ من حسرة وكثير ٍ من رحمة الى أرض الله الواسعة بدءاً بالصحراء ثانية.
هكذا وُلدتُ، مشوهاً كما يقولون، رجلاي مقوستان، يداي طويلتان، جفناي متهدلتان، فمي يمتد من أذنٍ كبيرة عجيبة الى أذنٍ مثلها، وعندما نمت أسناني مُنحت فكاً بارزاً عظيماً، ورغم كل شيء كنت أكبر، التهمتُ في البدء ثدي أمي التي كانت تُرضعني وهي تبكي ، ثم لما نشف حليبها أكلتُ كل ما وقعت عليه عيني، خبز ناشف، فتات او بقايا أطعمة، لم يكن أحد ممن حولي ينتبه لي ، كنت ُ مثل كلبٍ مشرد كلما اقتربتُ من أحد إخوتي أحظى برفسةٍ مؤلمة ، لم أبالٍ كثيراً ، تعودتُ على طريقتهم حتى بات رمي أختي الصغرى لي بقطعة خبزٍ طازجة أمرٌ مُستغرب ، إنما كنتُ أفرح بالعطايا وآكلها بتلذذ.
دخلتُ الى المدرسة بطريقةٍ عشوائية، كنتُ ألحق بإخوتي وأطل من نافذة الفصل على الطلاب اللامعون وأتعلم من أستاذهم ما يعلمهم ، وهو يراقبني ولا يقول شيئاً، وكنتُ تحديداً أنجذب للحساب وأحل مسائله بعقلي والطلاب واجمون حتى أتى يوم مختلف، يوم أحسستُ به متضامناً معي، كنت قد تحممت في النهر المجاور ، سرقتُ من بيتنا صابونة فركتُ بها وجهي وثيابي وجلست تحت الشمس لنجف معاً، ثم سرحتُ شعري الطويل بيدي كما أراهم يفعلون ولبست الثياب المهترئة لكن النظيفة هذه المرة ، أخذت عرق ريحان من أمام باب عمدة القرية وهرعت الى المدرسة ، وقفت بالنافذة مثل كل يوم وعندما طرح أستاذ الحساب المسألة وسكت الطلاب صرخت أنا بالجواب، نظر اليّ بطرف عينه وأخذ يقرع التلاميذ بأن ابلهاً مثلي يعرف ما لا يعرفون وعجبتُ أنا ولأول مرة عرفتُ أنهم يطلقون علي نعت الأبله.
خرجت من المنطقة وأنا أمشي دون هدفٍ محدد ، لم أتعود أن أبكي أو أحزن ولا أعرف ما معنى الأبله تحديداً ، فقط كان شعوري انها كلمة رديئة لا تناسبني ، ثم أنني توغلتُ في المزارع وخرجت منها وأنا لا أعلم كم مشيت ولا كم شمس وقمر عبرا بي، مشيت ختى أصبحتُ وسط صحراء باردة وعندما انتبهت كان الوقت ليلاً وكان قد تعاقب علي سبعة أهله ان كنت أذكر، حاولت أن أذكر ما استطعت تماماً انما اقتنعت انها سبعة أيامٍ بلياليها ، جلست الى حضن كثيب وضوء البدر يتشكل وينتشر ثم يختفي خلف غيمة، فصنعتُ لي فراشا من الرمل الناعم وأهلتُ علي كثير من الرمل غطيت جسدي به ، تركتُ يدي اليمنى خارج فراش الرمل ورأسي فقط وغفوت.
في النوم رأيتني أطير الى الأسفل، أسقط طائراً في هوةٍ خضراء ، أرى في جدرانٍ دائرية صناديقٌ مزركشة ، ولا أفكر في الإمساك بها، لم أخف، كنتُ أبحث عن قرار الهوة وحسب، ثم تسليت بمعادلات بأعدادٍ مفردة، عددتُ حروف ووزنتها ومنحت الهاء ثمنمائة نقطة والكاف مائتين والراء اربعمائة وتشكلت أمامي أبواب ٌ مغلقة في الهواء وكنت كلما منحت حرفاً عدد فُتح أمامي باب وفتحته، كنت أذكر النون ورقمٍ لا أذكره يلملم حولي يراع مضيء ويشرع لي باب كهفٍ في خاصرة المكان ، ذلفتٌُ اليه ووجدت مرآةٍ كبيرة ورأيتُ وجهي الذي أعرف وجسدي الذي أذكر الا ان لي جناحين خضراوين يبرقان كأنهما من جوهر الزمرد هكذا اتى في بالي اسم ووصف لشيء لا أعلمه لكنني أدركه وبعد ان رأيت نفسي ابتسمت وحمدت الله.
في لحظة التمام للحمدلله من قلبي تكسرت المرآة وظهر مكانها شيخٌ جليل، أمرني بإتباعه ففعلت ودخلنا الى ما يشبه الكهف، أشار لي بالجلوس فجلست عند قدميه ، أراد ان ارتفع فأبيت ، جلست وهو يضع على كتفي الأيمن صولجان ذهبي في رأسه جوهرتين منبثقتين من رأس أفعى ملتفة واحدة حمراء وأخرى خضراء ( الجوهرتان) وكلما أسر لي بشيء التفت الأفعى وأستطالت حتى وصل الي رأسها ، ثم أنها زحفت على كتفيّ فآنست فرحة خفية ، وأمانٌ لا يشبه شيء مما شعرت به في كل ما مضى، ثم أن الشيخ قال لي بصوت واضح وقور : يا بني خلعنا عليك مفتاح الحكمة ومنحناك رضا القلب الرضي في أصله وقد امتحنا بك من حولك واختبرناك ، ووجدنا فيك ما جعلنا نصطفيك فأنت الآن في حلٍ من هيئتك الأولى فأختر ما تريد أن تكون عليه لنعطيك ما تروم.
أخذت أفكر وقد غزاني نورٌ لم أعرفه ولم أعيه من قبل، وبعد برهة طويلة قلت للشيخ: يا شيخنا رضيتُ بوجهي وجسدي وحظي من أهلي ومن الناس ، كل ما أرغب به الآن أن أعود بهيئتي الى أهلي وقريتي على أن اكون غنياً وذو علم وحكمة. فقال له الشيخ : لبيك، وما طلبت لك.
وكان ان ارتفعت الشمس في كبد السماء فاستيقظت من نومي ، ورأيت ان التراب لم يعد يغطيني كلي ثم أنني استغربت من شكل ساعدي ورجلي وقد نموا بشكل لا يتناسب ونومي لليلة، ثم انني وجدت شعري وقد طال الى ركبتي وأكثر، لا أعرف ما حدث ، كل ما أريده الآن شربة ماء ولقمة طعام ، عدت من نفس الطريق، لم أجد كل المزارع، وجدت بيوتاً مختلفة، شارفت على قريتي واستغربت قربها ، لم أجد ما أعرفه الا النهر والصخور التي حوله وبعض أشجار الليمون ، طللت في النهر فأستغربت مظاهر النعمة التي تبدو علي وكيف ان شعري الطويل قد التم في ضفيرة مرتبه يلتف حولها ثعبان بعينين من جوهر أحدهما خضراء والأخرى حمراء وأن لي وجه جميل وان لحيتي مشذبه وأبدو شاباً مُعافى وذو جاه ، أرتدي حلة فاخره وأحمل خرجاً مليئاً.
مررت بجوار المدرسة فلم أجدها ذهبت الى موقع بيت أهلي لأرى والدتي وأفرحها ، فوجدت أطفالاً صغاراً يلعبون سألتهم ان كان هذا بيت عطا الله فقالوا نعم واتضح انهم ابناء أخي، كيف ؟ متى ؟ احترت كثيراً، طرقت الباب وخرج لي أخي الاكبر الذي كان وسيماً كما أذكر فوجدت رجلاً منهكاً ونحيلاً يسألني ماذا أريد فسألته عن والدي فقال انهما توفيا ، ثم بعد ان نظر اليّ بتفحص دعاني الى الشاي فأجبته ودخلنا الى الدار، أخذت اتذكر زاويتي والقش الذي نمت عليه والتنور الذي تدفأت به عوضا ً عن حضن أمي ورفسات أخي هذا لي كلما حاولتُ الإقتراب منه ، انتبهت على صوت أخي يدعوني لتناول الشاي وأقراص شعير فقيرة فأكلت وشربت وحمدت الله ومن ثم سألته ان كان لهم أخ اسمه جواد في يومٍ من الأيام ، فانتفض وارتعش قليلاً ثم قال انه غير مسئول لو سرق مني شيئا وانه غادر منذ اكثر من اربعة عشر عاماً ولا يعرف عنه شيئاً.
هززتُ رأسي قائلاً لا تخف يا أخي لم يسرق مني شيئاً ، بل أنه بعث لك ولإخوتك هذا معي وأخرجت من الخرح صرة ذهب كبيرة ومنحتها اياه وكان الثعبان في رأسي يلتف ويلتف فآثرت أن أخرج واستأذنت وهو يلحقني، أين هو الآن جواد؟ هل أصبح غنياً؟ ، لقد افتقدناه ؟ هل تعرف عنوانه؟
رددت عليه : جواد تُوفي وهذا دين له علي وكان قد أوصاني ان هو مات قبل ان ارد له الأمانة أن امنحها لكم وها قد فعلت فعظم الله أجركم ووداعاً.
ثم أنني عدت أدراجي بقليلٍ من حسرة وكثير ٍ من رحمة الى أرض الله الواسعة بدءاً بالصحراء ثانية.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق