السبت، 18 مايو 2013

انتحار المارد

                                                            انتحار المارد
حكايتي أرويها لكم مع مارد الإبريق السحري، أرويها بعد أن أقدم التافه على الانتحار ذات "تعسيلة عابرة" بين يدي واستحال إلى دخان (بتخفيف الخاء) له رائحة الكبريت. وكانت المرأة التي تصب البنّ في شجاج رأسي التي يصيبني بها الراجمون الذين يقصفونني في العصارى بحجارتهم تقول لي: لا تنم وحدك، "وشغّل السهاريّة"، وإذا شممت في الغرفة رائحة "دخّان" (بتشديد الخاء) وكبريت ممتزجتين فاقرأ المعوذتين واخرج منها. مشيت على ذلك ومضى زمن "السهّاريّات"، ولم يعد يتذكرها ولا يكتب عنها إلا ليلى الأحيدب، وصار المكيف يصيبني بالروماتيزم وأنا لا أزال في بحر العشرينات، ثم تغيرت مراوغاته معي، فصار يسكن في المصابيح ويقلقها إقلاقاً حتى أضطر إلى إطفاء جميع الأنوار التماساً للراحة، فيشنّ علي غارته. في اللقاءات الأولى بيننا كان جاثوماً يتمطى على صدري بصلبه وكأنه يسبح على ظهره، ثم يقلب عنقه بطريقة ببهلوانية ويحاول وضع خرطومه الذبابيّ في أنفي، وأحياناً أستيقظ وأنا أشعر بقيئه على عنقي وأسأل إمام المسجد، فيقول لي نقلاً عن إمام المذهب المرداوي إن قيء الشيطان طاهر فلا تفكر فيه، ويحرّصني على المعوّذتين، وكنت أدور في حلقة مفرغة بين الصراع المستمر بيننا، وبين وتوصيات كل من ألقاهم بالمعوّذتين. حتى صرت أتمكن من منازلته وأمتلك القدرة على أن أغيّر سيناريوهات الأحلام في داخلي وأقود زمامها بأمري لا بأمره؛ فما إن أرفع الصوت بالشهادتين أو حتى بلعناتي له حتى يختفي وكأنه ظلّ أجهرته الشمس، أو أستيقظ وأجدني مستوياً على دفء الفراش وقد حوّله عرقي المسمغدّ إلى بحيرة. في المراحل التي تلت ذلك تحوّل خصمي إلى كائن ضعيف واهن لا تصح تسميته بالعفريت، وكنت أمارس معه لعبة التحمل التي يجيدها هولك هوغن وورثها عنه أندرتيكر بجدارة، ثم أمسك بحلقومه الهلامي حتى يفرغ قيئه الطاهر على ذراعي، ثم أرفعه وأقلبه رأساً لقدميه، وأنزله على رأسه، وأثبته، وأعد إلى ثلاثة.. ولما تكرر ذلك واستقين الهزيمة صار يلتقيني كما يقابل رجل الزقاق الذي يبيع الحشيش رجل دوريّة الشرطة المرتشي، ومع أني كنت شرطياً لمناماتي ورجل أمنٍ لراحتي فإن هذا التشبيه يلازمني، أعني تشبيه الشرطي المرتشي! ما عليكم.. قال لي بلهجة المستعطف ذات تعسيلة عابرة، وقد تحول صوته إلى شيء أقرب إلى لهاث كلب لكنه لهاث بكلام: افرك الإبريق، "تكفا، فديتك"، فقلت له: إن كنت تظن أنك جبرائيل وأنني عبدالمطلب حتى ألتمس منك معنى هذا اللغز وأطارد ما بعده من ألغاز منتظراً من "جنابك" تفسيره المنتظر فاغسل يديك من الآن، "خلّص بسرعة ولا تطولها معي"! وضع الإبريق أمامي ودخل بمرونة لافتة من فمه، وقال: "حكه وشوف، وسأقول لك شبيك لبيك خادمك بين يديك". قلت: "ما حك جلدك مثل ظفرك". قال لي: ما قصة الناس؟ قلت: ما قصتك أنت مع الناس؟ قال: مررت بطفل يلعب واقتربت منه فوجه إليّ ركلة طيرتني بدلاً من أن يفركني ويحصل على ما يريد. قلت له: "ممحون أنت أو في راسك قمل"؟ قال: وزاد الصبي بأن ضحك وقال لي: هكذا يصنعون بالأباريق السحرية، حتى النمر الوردي "كذا يسوي فيهم"! قلت له: الرجل صدق معك، أذكر أنني شاهدت في حلقة النمر الوردي يوم كنت طفلاً مثله أن الإبريق السحري كان يبحث عن أحد "يعطيه وجهاً" فما وجد. قال: وذهبت للشيخ فقال: "المعازيب صارت تعطينا ولم نعد نحتاج للنصب"، وحملت إبريقي بثقله الهائل على كاهلي إلى ميدان رماية فصاروا يطلقون النار عليّ بدلاً من أن يطلبوا "شبيكاتي ولبيكاتي"، حتى الفقير لما وجدني لم يحكّ رأسي اليتيم ولا حتى مسحه، وكنت أستطيع إنهاء فقره في غمضة عين، ولكن (وبدأ يبكي) أزاح الغطاء القديم ونظر في جوف الإبريق الصدئ، ثم رمى بي في الزبالة، هل تصدّق؟! فقير يبصق العلكة في الطريق ولا يراعي حين يتفلها، يأخذني مع وعائي الأسطوري ويلقي بنا في النفاية؟! (وازداد بكاؤه)، وبكاء المارد (يا أنتم) يحوّله عفريتاً ثم يجعله يتصاغر حتى يتموج ويكون مثل "السعلوة" ثم يتحول إلى أطياف، وليس كالبشر الذين يذرفون الدموع. قلت له: "مشكلتك"، قال: سأنتحر، قلت: "معْ نفسك"، قال: ولكنني إذا انتحرت فلن تجد مارداً يغيثك إذا حككت إبريقه، قلت: لا أعرف مارداً أنتحر بموته إلاّ المارد الذي بين ساقيّ. قال: إذا جاءك ذاك الحين فسوف أكون مارداً بين ساقيك، قلت: "لا والله! وهل يمكن لأحد أن يضاجع بذَكَر غيره، هذه لم يستطعها الأغنياء ولا حتى الملوك"! قال: أنا من سيضاجع لك به إذا جاءك زمان العجز، وسأجعلك أسطورة الزمان والمكان، قلت له: مشكلات العجز والكبر أعظم من مجرد الانتصاب، فهل ستبول بالنيابة عني إن انسدت مثانتي؟ أم هل ستغلق لي صنابيري إن أصابها السلس حينذاك؟ قال لي: إلى ذلك الحين "يحلها الحلاّل"، قلت: إلى ذلك الحين "روح الله يستر عليك، حلّ عني وخلني أكمل تعسيلتي". أما بقية تفاصيل الانتحار التافه فقد رويت لكم نبذة عنها في البداية ولا داعي لإملالكم بما بقي منها، لكنني أحيطكم بأمر قد لا يكون له قدر كبير من الأهمية، هو أن موت العفاريت إنما هو امتداد من الألم والتلوّع والبكاء، ولذلك فإن أعمار الذين لا يبكون منهم ولا يتألمون تطول، ولكن لا بد للمرء مهما طال عمره وامتد من موعد مع الألم، ويظل المارد الميت في نظري المتواضع خيراً وأحسن حالاً من ذلك المحبوس في القمقم.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق